تؤشر الأزمة اليونانية وما تمخّضت عنه المفاوضات التي أدّت إلى "إذلال" الشعب اليوناني بقسوة فائقة، إلى انكشاف حقيقة الوهم الذي أغرق فيه الاتحاد الأوروبي الدول الصغيرة في أوروبا، وتلك الخارجة من رحم الاتحاد السوفياتي، بأن الاندماج حلم على الشعوب السعي لتحقيقه، لا بل عليها تحمّل ما لا يحتمل من أجل دخول "جنة" الاتحاد الأوروبي المفترَضة. وكما قال بول كروغمان؛ الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، إن الاتفاق ليس فقط إهانة للشعب اليوناني ولن يسمح بأي أمل بالنمو، بل إنه خيانة لكامل فكرة المشروع الأوروبي الذي تأسّس من أجلها أيضاً.
كما اليونان، تعيش معظم دول الجنوب الأوروبي مشاكل اقتصادية لا تُعدّ ولا تحصى نتيجة ازدياد الديون، وتدني نسبة النمو، وارتفاع معلات البطالة، بحيث تبدو أوروبا التي تريد حكم العالم تطير بجناح واحد، بينما الجناح الثاني معطوب بالتآكل التدريجي، الذي لن يصمد لوقت طويل كما يبدو.
لقد أثبتت التجارب، ومنها اليونانية، أن دخول "جنة الاتحاد الأوروبي" مكلفة، وليس كل ما يلمع ذهباً، وهذا يجب أن يدفع دول أوروبا الشرقية السابقة إلى الاتعاظ من الهرولة السريعة للارتماء في أحضان الأوروبيين، وتقديم التضحيات الجسام للدخول بأي ثمن، فها هي اليونان مؤشر على ضلوع الرأسمالية المتوحشة في إفقار اليونان، وإغراقها بالديون، ثم إذلالها ببيع موجودات الدولة وإرثها الوطني، بحيث يشير بعض الاقتصاديين الأوروبيين إلى أن اليونان باتت مضطرة لبيع الجزر وخصخصة الآثار الإغريقية، وقد لا تكفي لسد جشع الرأسماليين الأوروبيين.
نعم، لقد انتصرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في تركيع اليونان، وتبيّن أن الفرنسيين قاموا بمؤامرة على اليونان، ظاهرها تفاوضي لإيجاد حل وسط، بينما باطنها تآمر واضح بين فرنسا وألمانيا على أخضاع اليونان ومن ورائها جميع المعترضين على السياسة الرأسمالية المتوحشة التي تحكم الاتحاد الأوروبي.. ولكن!
الانتصار على اليونان وترهيب الدول الأخرى لا يعني أن الاتحاد الأوروبي يعيش أفضل حالاته، والملاحظ ازدهار نزعات التطرف لدى الجمهور الأوروبي، فمن جهة أولى يشهد اليمين المتطرف صعوداً غير مسبوق في أوروبا، وشعاره التخلّص من الأجانب ورفض المهاجرين، والعنصرية ضد الوافدين من آسيا وأفريقيا، خصوصاً المسلمين، ومن جهة أخرى يشهد اليسار المتطرف الرافض للسياسات الرأسمالية الاقتصادية المفروضة من قبَل مؤسسات الاتحاد المالية صعوداً كبيراً في دول الجنوب الأوروبي. أما على المستوى الاقتصادي، فتشهد كل من فرنسا وبريطانيا انكماشاً اقتصادياً، جعل من سياسيي البلدين يقومون بزبائنية سياسية لكل من قطر والسعودية، وبات الرئيس الفرنسي مأموراً من الحكام الخليجيين، وأداة في سياساتهم الخارجية في المنطقة، ولو كان الأمر خارجاً عن المنطق وحقوق الإنسان والسلام الإقليمي.
في النهاية، وكما قال ماركس يوماً: النظام الرأسمالي يحمل بذور انهياره من الداخل، وها هي مآزق الاتحاد الأوروبي، وقبلها الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، أتت لتثبت حاجة العالم إلى نظام عالمي جديد، فالنظام الحالي لم يؤدِّ إلا إلى الحروب والدمار وتهميش الشعوب، وزيادة الهوّة بين الفقراء والأغنياء، ولعل وهم فائض القوة الغربي يؤشر الى أخطار حقيقية على النظام القديم منها:
1- ربحت برلين واستطاعت الرأسمالية المتوحشة قهر اليونانيين، وإجبارهم على التوقيع على خطة إنقاذ، لكن ألا يلاحظ الأوروبيون أن ما حصل لليونانيين يشبه إلى حد بعيد معاهدة فرساي على أثر الحرب العالمية الأولى، والتي أدّت فيما بعد بالإضافة إلى مجموعة أخرى من العوامل السياسية والاقتصادية، إلى نشوب الحرب العالمية الثانية؟
2- ألا يمكن أن تكون الكارثة اليونانية التي فضحت عورات النظام القديم وعدم ديمقراطيته وإهانته للشعوب، مقدمة لازدهار المؤسسات المالية التي أعلنت دول "البريكس" تأسيسها، ومنها البنك الجديد للتنمية وصندوق لاحتياطات الطوارئ، وهما مؤسستان بمهمات تشبه إلى حدّ بعيد مهمات البنك الدولي للإنشاء والتعمير (البنك الدولي) وصندوق النقد الدولي؟
وهكذا، قد تكون الحرب العالمية الثالثة الدائرة على أرض العرب اليوم، مناسبة لتغيير النظام القديم والتطلع إلى نظام عالمي جديد، تتبدل فيه الأقطاب، وتحلّ مؤسسات مالية جديدة مكان المؤسسات المالية التي أفرزها نظام بريتون وودز والحرب العالمية الثانية، وقد يكون آن أوان العصر الآسيوي الدولي هذه المرة.